رصيف الباعة أم رصيف الراجلين؟
صوت الصحافة د كنور يحيا انير
البارحة وأنا أتصفح كعادتي مواقع التواصل الاجتماعي، نابشا بفضولي المعرفي بين بضع صفحات فايسبوكية، إنتابني تعليق بإحدى المجموعات الاخبارية التي تعنى بقضايا المجتمع ومشاكل واشتكاءات المواطنين. بين الكلمات المنسوجة لصاحب التعليق حروف صادقة تعبر عن غيرة مكبوتة عن مشكل عويص كثيرا ما أرق المواطنين بمختلف تلاوينهم، موضوع استفسرت عنه الألباب عبر عقود وعقود، لكن لا مفر من التجاهل والنسيان وغض البصر وإظلام البصيرة عن مطالب المواطن العادلة والباحث عن حقوقه في ظل الديمقراطية والعولمة ودولة حقوق الانسان.
كاتب التعليق نشر صورة ملتقطة بهاتفه الشخصي، معلقا عليها بشيء كمثل ما يلي: “تاجر يضع سلعته المتجاوزة الرصيف، بل والتي حجزت على نصف متر من الشارع المعبد والمزفت”. هيهات هيهات، في قرارة نفسه يتساءل هذا المواطن عن الصلاحية التي لدى هذا التاجر؛ من أعطاه التزكية ليتجاوز حقوق العباد باغتصاب مساحة الرصيف الذي هو في الأصل ملك لهم؟ أي وصاية له على الشارع المعبد ليمازح سنتميترات من ملك السيارات والدراجات النارية والهوائية وعربات النقل الصغيرة؟
جاء موضوع الصورة والتعليق المرفوق بها كشرارة أو جذوة يذكيان حساسية لدى بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي. عشرات من الغيورين والغيورات يعلقون ما بين السخرية والاستهزاء، سخرية تنم عن غيرة أصيلة. بعض المعلقين تهكموا قائلين على أن التاجر له يد تصافح يدا أخرى من المسؤولين، ذلك ما دفعه ليجور ويطغى ويضرب بمنتوجاته وسلعه عرض الحائط، فهو في الأصل لم يحترم المواطن، عساه أن يحترم السلطات التي علق آخرون على أنها تغض الطرف وتتحاشى مثل هكذا مواقف باعتبار أن الاحتكاك مع التجار لن ينتج إلا الحقد…
بالمقابل وعلى النقيض، علق آخرون عن غيرة مثالية مضادة لصالح التاجر على أنه ليس الوقت الآن لمناقشة مثل هاته المواضيع، لا سيما أننا ما نزال في مرحلة كورونا، لذا وجب علينا التعاون والتسامح وإنكار الذات وقتل سلطان الحسد. حيث أن إحداهن علقت في كلمة واحدة فقط: “الحسد”، تيمنا منها أن صاحب المنشور يحسد التاجر على عرض بضاعته وسط الشارع متجاوزا الرصيف بما ملكه من مترين ويزيد من سنتمترات معدودة. حيث أن أشخاصا معدودون على رؤوس الأصابع، يشجعون التاجر على فعلته لأن ما يقوم به مندرج ضمن عملية كسب المال الحلال، وإشادتهم معدية لمحايدين آخرين اكتفوا فقط بوضع ردة فعل سلبية بملصقات تعبيرية.
لأكثر من ربع ساعة وأنا أتصفح التعاليق، هاته الأخيرة التي تتضارب فيها السخرية والاشادة بالفعل والوشاوية بالتاجر وأحيانا تلفيق فكرة الحسد لصاحب المنشور وهلم جرا من الأفكار المؤيدة والمضادة التي اتخذت من رقعة الموضوع حلبة للملاكمة الفكرية. نباهة وغرابة، ليظل السؤال المحير في نظري والذي حيرني كذلك منذ نعومة أفكاري: هل هو في الحقيقة رصيف الباعة أم رصيف المتجولين؟
لن أنتظر بعد مقالي هذا إجابة شافية للغليل، كوني أدري أنه ليس ثمة من سامع ولن يكون ثمة من مجيب. غير أني أود شرحا وتفسيرا لما يقع وما سيقع. المحلات التجارية بشتى أنواعها وأصنافها في ازدياد ملحوظ بالعشرات كل يوم في هذا الوطن الحبيب. مع افتتاح كل محل تجاري يدري المواطن أن رصيفه سيحتل وسيسلب منه وستسرق منه حريته على رقعة أحلها له الله والدولة والقانون، لكن لِمَ يسرقها التجار والباعة والاسترزاقيون وأصحاب السيارات القاطنين بجوار كل رصيف؟
ثمة على سبيل المثال لا الحصر، حوامل يواجهن الضيق والتضييق وهن يجدن الأرصفة مستعمرة، ما إن ينزلن للشارع حتى يجدن سيارة خلفهن أو شاحنة تصرخ عليهن لإخلاء مساحة ليست في الحقيقة ملكهن؛ نعم هو كذلك، لكن بالنسبة لهاته الحامل، على من ستصرخ؟ على التاجر الذي لا يأبه، على الدولة التي وجب عليها اتخاذ التدابير والاجراءات اللازمة، على نفسها كي تصنع لها أجنحة عباس بن فرناس لتطير مع الطيور عوض السير ككل الراجلين بالمعمورة؟ اللهم لا حسد؛ لا من مجيب يا سادتي القراء.
رصيف الباعة أم رصيف الراجلين. هكذا سيظل النقاش إلى يوم نبعث على رصيف القيامة. اللهم من حسنات القدر إن تدخل المسؤولون وحرروا الملك العام لصالح المواطن البسيط المقهور، الذي سلب حقوقه أينما حل وارتحل. فحتى حقه في استغلال الرصيف ليس واجبا، وأي خطوة منه لاسترجاع حقه هذا يعتبر جريمة في نظر السالبين. لهذا أقول للباعة والتجار وأرباب المقاهي والحانات والباعة المتجولين: كفاكم استهتارا بالمواطن. إمنحوه رصيفه، إجعلوه يمشي بأبهة وتوقير كسيد على مٍلْكه، لا كسجين يبتغي الانتصارات من خلال مقارعتكم (ليس عن حسد) والتّوق للسير فوق قطعة أو رقعة من وطن سلبت منه غصبا منذ عقود.