كلمة الرئيس الحكومة جلسة المساءلة الشهرية بمجلس المستشارين حول الموضوع المؤشرات الاقتصادية والمالية وتعزيز المكانة الدولية للمغرب
صوت الصحافة

صوت الصحافة
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد رئيس مجلس المستشارين المحترم؛
السيدات والسادة الوزراء المحترمون؛
السيدات والسادة المستشارون المحترمون؛
أتشرف بالحضور إلى مجلسكم الموقر للجواب عن موضوع هذه الجلسة، وأشكركم على طرح هذه الأسئلة المهمة المتعلقة بتطور المؤشرات الاقتصادية والمالية للمملكة وتعزيز مكانتها الدولية.
وكما لا يخفى على الجميع، فإن موضوعنا اليوم، يستمد أهميته باعتباره مدخلا رئيسيا لتوطيد المسار السوسيو-اقتصادي للمملكة.
وهو المسار الذي نراهن على نجاحه من خلال تدعيم قدرات المغرب على مواصلة مختلف إصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية، وأيضا من خلال الاستثمار الفعال للفرص المتاحة أمام بلادنا، بما يضمن التموقع الآمن على الخريطة الاقتصادية العالمية مستقبلا.
حضرات السيدات والسادة،
وإذ أجدد أمامكم التأكيد أن سعينا كحكومة للمساهمة في بناء “مغرب المستقبل” وتهيئ الأرضية المناسبة لاحتضان خياراتنا الكبرى، فإنني أؤكد أن هذه الطموحات المشروعة نابعة من صلب التصور الملكي السامي الذي يبتغيه جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، إطارا تنمويا لمستقبل بلادنا.
ولست في حاجة إلى التذكير، أن هذه الرؤية الملكية الفريدة، كانت حافزا مباشرا نحو بلوغ نموذج اقتصادي صاعد، وبناء علاقات وطيدة بالعالم تكرس مكانة المغرب القارية والإقليمية.
فمنذ بداية الألفية الثالثة، قاد جلالة الملك محمد السادس، دام له النصر والتمكين، ملحمة وطنية من البناء والتقدم، حقق خلالها المغرب العديد من المنجزات الهامة، ووضع مساره التنموي في سكته الصحيحة.
وقد ساهمت هذه الدينامية الانتقالية، التي قادها جلالته نصره الله، في تحديد معالم التحول التنموي ببلادنا وفق ثلاث دعامات أساسية:
الدعامة الأولى: تتمثل في نجاح بلادنا في توطيد الخيار الاجتماعي من خلال مراجعة نموذج سياساته الاجتماعية، باعتبارها آلية لترسيخ الثقة وتكريس مناخ اجتماعي سليم، وهو ما جعل القطاعات الاجتماعية أكثر مسؤولية وفعالية ومواكبة لتطورات المجتمع.
الدعامة الثانية: تجسدت في رفع تحديات الحفاظ على التوازنات الاقتصادية، عبر تعبئة مسلسل من المبادرات الهيكلية، التي كان لها وقع مباشر في تحسين مردودية الاقتصاد الوطني وتعزيز صموده في مواجهة مخاطر الظرفية.
الدعامة الثالثة: ارتكزت على تعميق الاندماج الدولي للمغرب وانفتاحه المتزايد على محيطه الإقليمي، وهو ما يعكسه الوضع المتقدم الذي تشهده مكانة المملكة.
إن هذه المكتسبات التي راكمتها المملكة، تعطينا الثقة في الذات والأمل في المستقبل، كما أكد على ذلك جلالته حفظه الله بمناسبة عيد العرش المجيد للسنة الماضية. مبرزا في خطابه السامي أن “التحديات التي تواجه بلادنا، تحتاج إلى المزيد من الجهد واليقظة، وإبداع الحلول، والحكامة في التدبير”.
ووفقا لهذه التوجيهات المولوية، تؤكد الحكومة التزامها بمواصلة عملها ومضاعفة جهودها بشكل يرقى إلى خدمة التطلعات الوطنية، وبلورة مخططات تسهم في التطوير الشامل لبلادنا، أكثر إنصافا وعدالة.
حضرات السيدات والسادة،
بالنسبة للحكامة المؤسساتية والتنظيمية:
لا شك أننا متفقون جميعا على أن الموضوع الذي نتناوله اليوم، والمرتبط بتكريس الصورة الإيجابية لبلادنا، يحتاج إلى تهيئة الظروف الملائمة لتحديث منظومتنا التدبيرية وتقوية مداخلها المؤسساتية.
حيث أن الدفع بالنموذج المغربي في مجال الحكامة المؤسساتية نحو مستوى متقدم، كان وسيظل القلب النابض لعمل الحكومة، بشكل مكننا من تعزيز نجاعة التدخلات العمومية ومصاحبة الإصلاحات التي تم إطلاقها.
فكما هو معلوم، لا يكفي اليوم التوفر على مشاريع وبرامج قطاعية واعدة فقط، بقدر الحاجة الماسة إلى ترسيخ توجه تنظيمي جديد، يقوم على آليات فعالة لقيادة الأوراش المفتوحة وتتبعها، مع ضمان إنجازها الميداني.
فنظرا للطابع الأفقي لمختلف السياسات والبرامج القطاعية، عملت الحكومة على توطيد مبادئ العمل التشاركي وضمان التكامل لمجموع تدخلاتها.
حيث يحسب لهذه الحكومة حرصها الشديد على مأسسة آليات القيادة والتتبع، بشكل يروم تعبئة الذكاء الوطني وخلق جسور الالتقائية بين مختلف القطاعات.
حيث تم إعطاء نفس جديد لمجموعة من اللجن البين-قطاعية وتنويع أساليب اشتغالها بما ينسجم مع الخصوصيات الترابية والقطاعية ببلادنا.
السيدات والسادة المستشارون المحترمون،
فيما يتعلق بتحسين المؤشرات المالية ببلادنا:
لقد كانت الحكومة على وعي تام بأهمية تكريس الحكامة المالية وبآثارها الاقتصادية والاجتماعية، وفق مقاربة تراعي تعزيز كفاءة التدبير الميزانياتي وإضفاء المزيد من الشفافية على منظومة المالية العمومية.
فمنذ بداية الولاية الحكومية، حرصنا على إقرار جيل طموح من الميزانيات-البرامج، وفق مقاربات مندمجة ترتكز على منطق النتائج.
وهي النتائج التي لمسها الجميع في تنفيذ المشاريع المهيكلة، وعلى رأسها ورش تعميم الحماية الاجتماعية، الذي استفاد من المراجعة الحكومية العميقة لمختلف برامج الدعم الاجتماعي السابقة التي كان يعتريها التشتت وعدم التجانس، لاسيما من خلال تجميع الموارد المرصودة وإعادة توجيهها بشكل معقلن وتأهيل منظومة الاستهداف الاجتماعي للأسر المعنية.
هذا المسار الجديد من العمل الاجتماعي الذي يعكس مصداقية الالتزامات الحكومية، ستتضح ملامحه من خلال مأسسة آليات الحوار الاجتماعي، الذي أسفرت مختلف جولاته عن دعم الطبقة الشغيلة والحفاظ على قدرتها الشرائية، عبر مخصصات مالية تجاوزت 45 مليار درهم.
فضلا عن ذلك، فإن الحكامة التي كرسها العمل الحكومي كان لها وقع بالغ في تأهيل قطاعات التربية والتكوين والصحة، سواء من خلال الرفع التدريجي لميزانياتها، أو عبر إعادة هيكلتها وفق مخططات تروم الرفع من جودة التكوين وتحسين الخدمات الاستشفائية، مع توزيعها بشكل يضمن العدالة المجالية.
نفس الرؤية الحكومية، أثبتت نجاعتها فيما يتعلق بالقطاعات الاستراتيجية، التي أصبحت عنوانا رئيسيا لنجاح الاقتصاد الوطني ودعامة لمختلف تحولاته، مما سيمنحه مزيدا من المرونة والتنافسية والاستدامة، لاسيما في قطاعات الأمن المائي والغذائي والصناعة الوطنية.
ويحق لنا اليوم الإشادة بملامح هذا التحول، وأن نعلن أمام هذا المجلس الموقر على أن الجهود المبذولة تكللت بالنجاح، وأعطت الثمار المرجوة منها. مساهمة بذلك في تجاوب الحكومة مع انتظارات المرحلة والتحديد الدقيق لاختياراتها.
فرغم الضغوطات العديدة التي مست منظومة تمويل السياسات في مختلف بلدان العالم، ستكون سنة 2025 ببلادنا سنة للطموح والاستمرارية، نسعى من خلالها تحصين النتائج المشرفة التي تحققت خلال السنوات الماضية، ومواصلة الجهود للحفاظ على استدامة ماليتنا العمومية.
حيث اتخذت الحكومة تدابير استثنائية للحفاظ على وتيرة تنفيذ المشاريع الكبرى، من خلال تعبئة مخصصات الاستثمار العمومي وفق خط تصاعدي، والتي بلغت ما يناهز 340 مليار درهم خلال السنة الجارية.
مع ما سيعرفه التوزيع الجهوي للاستثمار من نقلات نوعية سيكون لها دور مباشر في تحسين دينامية التنمية الترابية والرفع من معدلات العدالة المجالية.
وهنا لابد من الإشارة، إلى أن هذا المنحى الإيجابي تأكدت فعاليته الاقتصادية من خلال التحكم في معدلات التضخم بل وتسجيل تراجعها التدريجي إلى أقل من 1% خلال السنة الماضية بعدما تجاوزت نسبته 6% خلال سنتي 2022 و2023، وذلك بفضل الإجراءات الموجهة لدعم الأسعار والمدخلات الفلاحية.
ورغم الظروف المناخية الصعبة، فإن الدينامية الجيدة التي تعرفها الأنشطة غير الفلاحية مكنت من تطوير ناتجها الخام بنسبة 5,4% في الفصل الثالث من السنة الماضية عوض3,2% خلال سنة 2023، وساهمت في تحقيق معدل نمو بلغ 4,3% مع نهاية الفصل الثالث لسنة 2024، عوض 3% خلال نفس الفترة من سنة 2023. ومن المتوقع أن يعرف الاقتصاد الوطني انتعاشة ملحوظة مع بداية 2025.
كما سجلت وتيرة القيمة المضافة للقطاع الثانوي ارتفاعا مهما بنسبة 7,6% خلال الفصل الثالث من سنة 2024 عوض 1,1% خلال نفس الفترة من 2023. لاسيما في القطاعات المصدرة والصناعات التحويلية وقطاع الأشغال العمومية.
فضلا عن تحقيق أرقام قياسية في قطاع الخدمات، حيث قفز عدد السياح إلى رقم قياسي جديد ليناهز 17,4 مليون سائح، بارتفاع قدره 35% مقارنة بسنة 2019، وبمداخيل إجمالية تجاوزت 112 مليار درهم بارتفاع قدره 7,5% مقارنة بسنة 2023. الأمر الذي يعكس فعالية خارطة الطريق السياحية ويكرس تموقع المغرب كأول وجهة سياحية في إفريقيا.
دون إغفال حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي حققت ارتفاعا ملحوظا، بلغ 43,2 مليار درهم في متم سنة 2024، بزيادة قدرها 24,7% مقارنة بسنة 2023.
علاوة على التدفقات الإيجابية لتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، التي ناهزت 117,7 مليار درهم عند نهاية سنة 2024، عوض 115,3 مليار درهم خلال سنة 2023.
كما واصلت الصادرات الوطنية دينامية غير مسبوقة، مسجلة بذلك 455 مليار درهم مع نهاية دجنبر الماضي، بنسبة ارتفاع تقدر ب 5,8% مقارنة بسنة 2023.
وهي مؤشرات نوعية مكنت من تقليص عجز الميزانية الذي استقر مع نهاية السنة الماضية (وبدون خوصصة) في أقل من 3,9%، وفق مسار تنازلي بعدما سجل %4.4 خلال سنة 2023، و5.2% خلال سنة 2022 و 7.1% خلال سنة 2020.
كما نطمح لتقليص عجز الميزانية إلى 3.5% خلال السنة الجارية، ومواصلة المجهودات لضبط العجز في حدود 3% خلال السنة المقبلة.
هذه الأرقام المشجعة كانت مدعومة بالتحسن الذي شهدته الموارد العادية التي ارتفعت بـــأزيد من 49 مليار درهم لتستقر عند 372,6 مليار درهم سنة 2024 أي بنسبة 15,2% مقارنة بسنة 2023، لاسيما المداخيل الضريبية التي حققت ارتفاعا بـــ 37,6 مليار درهم، بنسبة 14,3% مقارنة بسنة 2023.
ولعل الأصداء الطيبة الصادرة عن تقارير المؤسسات الدولية، لخير دليل على ذلك، حيث أن التطور التدريجي لطرق صرف المال العام وضبط التوازنات الماكرو-اقتصادية ببلادنا أصبح أمرا واقعا، بل ومؤشرا مميزا لليقظة الاستراتيجية لماليتنا العمومية.
وهو ما أشار إليه التقييم الأخير لمنظومة تدبير المالية العمومية في إطار آلية “الإنفاق العام والمساءلة المالية PEFA”، الذي أبرز في شتنبر الماضي التطورات المهمة التي سجلها المغرب في هذا المجال.
ومن جانب آخر، عززت الحكومة من جهودها فيما يتعلق بالتسريع بتنزيل محاور القانون الإطار المتعلق بالإصلاح الضريبي، باعتباره البوابة الأساسية لاستعادة دينامية الموارد المالية، وتحقيق العدالة الضريبية.
وقد انكبت الحكومة على تنفيذ هذا الإصلاح وفق أولويات وطنية محددة، وبرمجة زمنية متعددة السنوات، عبر إدخال مجموعة من التدابير الضريبية، تهم أساسا إقرار الإصلاح الشامل لأسعار الضريبة على الشركات بشكل تدريجي، وهو ما سيمنح المستثمرين والمقاولات شروطا ضريبية مبسطة وشفافة ومحفزة للأنشطة الإنتاجية والمقاولاتية.
مع إحداث المساهمة الاجتماعية للتضامن على الأرباح والدخول التي تساوي أو تفوق مليون درهم، بغية إعادة التوزيع الفعال وتقليص الفوارق وتعزيز العدالة والتماسك الاجتماعي.
وتحقيقا للهدف الاجتماعي للضريبة، تواصل الحكومة تعميم الإعفاءات من الضريبة على القيمة المضافة ليشمل مجموعة من المواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع، دعما للقدرة الشرائية للأسر وضبط آثار التضخم على السوق الوطني.
فضلا عن التوحيد التدريجي لأسعار الضريبة على القيمة المضافة المطبقة على المقاولات، للتخفيف من تأثيرها على النشاط المقاولاتي وتسهيل إدماج القطاع غير المهيكل، ووضع تدابير تهم توسيع نطاق التطبيق ومكافحة مختلف أشكال التهرب الضريبي.
كما تواصل الحكومة مجهوداتها من أجل تخفيف العبء الجبائي على أصحاب الأجور والدخول المعتبرة في حكمها والمتقاعدين، عبر مراجعة الجدول التصاعدي لأسعار هذه الضريبة بهدف دعم الموظفين والأجراء، لاسيما دخل الطبقة المتوسطة.
وذلك عبر رفع الشريحة الأولـى من الدخل السنوي المعفاة من الضريبة من 30.000 إلـى 40.000 درهم، قصد تمكين الأجور التي تقل عن 6.000 درهم شهريا من الإعفاء.
مع مراجعة الشرائح الأخرى للجدول بهدف توسيعها وتخفيض أسعار الضريبة المطبقة عليها، مما سيترتب عنه تخفيض قد يصل إلى %50 من هذه الأسعار، مع تخفيض السعر الهامشي من %38 إلى 37%.
وتعزيزا للثقة بين الإدارة الضريبية والملزمين، فتحت الحكومة عملية كبرى من أجل ضمان اندماج القطاع غير المهيكل في الاقتصاد المهيكل والرفع من شفافية الدخول. وقد مكنت حصيلة هذه العملية من التصريح بأكثر من 125 مليار درهم، ستعزز خزينة الدولة بما يفوق 6 مليار درهم.
من جانب آخر، وترسيخا لهذه الخيارات الإصلاحية، عملت الحكومة على تكثيف الجهود لتنزيل الإصلاح الشامل والاستراتيجي لقطاع المؤسسات والمقاولات العمومية. استجابة للدعوة الملكية السامية الرامية لإطلاق إصلاح عميق للقطاع العام، ومعالجة الاختلالات الهيكلية لهذا القطاع.
وذلك في أفق تحقيق أكبر قدر من التكامل والانسجام في مهام هذه المؤسسات، والرفع من فعاليتها الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي تقوية يقظتها الاستراتيجية.
في هذا الصدد، فقد خلصت المبادرات التشريعية والتنظيمية والحوارات الاستراتيجية التي أطلقتها الحكومة، إلى إقرار السياسة المساهماتية للدولة التي تستند إلى منظومة متكاملة من الأهداف ذات البعد التدبيري.
خاصة من خلال التأطير الجيد لتدخلات الدولة وتوضيح التزامات المؤسسات والمقاولات العمومية، فضلا عن وضع إطار مؤسساتي يعهد إليه بتتبع نجاعة الأداء، بما يخدم دينامية هذه المؤسسات وملاءمتها مع توجهات الدولة.
بخصوص تحسين المؤشرات الاقتصادية:
إن الآفاق الواعدة للانتقال الاقتصادي ببلادنا، وتحقيق طموحات “مغرب المستقبل”، لم يكن بالنسبة للحكومة مجرد التزام سياسي ثانوي، بقدر ما اعتبرناه الجواب الضروري والملح الذي فرضته الظرفية الدولية والوطنية.
لذلك فقد كان على هذه الحكومة التوجه نحو بناء “منظومة اقتصادية تضع الإنسان في صلب العملية التنموية”، وهو المعطى الذي ساهم تدريجيا في تحسين عيش الأسر وتحفيز منظومة الشغل لصالح الشباب، مع الاستغلال الجيد للمؤهلات الوطنية وتمويل الحاجيات الاجتماعية.
هذا هو الذكاء الاقتصادي الذي جعل من المغرب مرجعا لدى العديد من المؤسسات الدولية، ونموذجا قادرا على إنتاج عوامل إيجابية محفزة للسلوك الاستثماري ببلادنا، ويوفر للمقاولات الوطنية أرضية ملائمة للاستمرارية والابتكار، في أفق تحقيق النمو وتسريع أهدافه.
وتحقيقا لهذا الطموح، عملت الحكومة استنادا للدعوات الملكية السامية، على رفع التحديات والعراقيل التي كانت تحول دون تحقيق الفعالية الاقتصادية لبلادنا.
هذا، وشكل تحفيز سوق الشغل وتقليص الفوارق المجالية في مجال الاستثمار، مع الاهتمام بالقطاعات الواعدة وتشجيع الإنتاج المحلي، المحركات الرئيسية لليقظة الاقتصادية للحكومة، والطريق المباشر لبلورة أهداف ميثاق الاستثمار.
وفي هذا السياق، تمكنت الحكومة من إعطاء دفعة قوية للاستثمار الخاص وتحسين حكامته، وفق مقاربة مندمجة ومتكاملة، لاسيما عبر وضع أنظمة لدعم الاستثمار تتضمن نظام دعم أساسي يتكون من منح مشتركة ومنح ترابية وقطاعية ومشاريع الاستثمار الاستراتيجي.
مع الشروع في استكمال تنزيل أنظمة الدعم الخاصة التي تهم المقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة، إضافة إلى المقاولات المغربية المتواجدة على الصعيد الدولي.
ولدعم انخراط الجهات في المسلسل الاقتصادي وتعزيز إنتاجيتها المحلية، تواصل الحكومة رفع جودة خدمات المراكز الجهوية للاستثمار من خلال مراجعة إطارها القانوني، الذي سيشكل لبنة أساسية في تمكينها من التأطير الشامل لحاملي الأفكار والمشاريع والإشراف على عمليات الاستثمار.
بشكل سيعطي دفعة قوية لأداء المراكز الجهوية للاستثمار واللجن الجهوية الموحدة للاستثمار، ويجعلها مرجعا على المستوى الجهوي في هذا المجال، وفاعلا محوريا في الترويج للمؤهلات الترابية.
وتكريسا لهذا النموذج الانتقالي في مجال الاستثمار، تواصل اللجنة الوطنية للاستثمارات ديناميتها غير المسبوقة، حيث عقدت إلى حدود اليوم 14 دورة (في نسختيها السابقة والجديدة) قدمت حصيلة جد إيجابية.
إذ أسفرت حصيلة اجتماعاتها عن المصادقة على 275 اتفاقيات مشاريع استثمارية بقيمة إجمالية تفوق 393 مليار درهم، من بينها 9 مشاريع استراتيجية بقيمة إجمالية تقدر بــ 65 مليار درهم. وستساهم هذه المشاريع إجمالا في خلق ما يناهز 195.000 منصب شغل.
حضرات السيدات والسادة،
من أجل توفير بيئة مناسبة للاستثمار والرفع من تدفقات الاستثمار الأجنبي ببلادنا، تم السهر على تنفيذ خارطة الطريق الاستراتيجية في أفق 2026، الخاصة بتطوير مناخ الأعمال بالمغرب، وذلك عبر تنزيل 46 مشروعا.
كما أن هذه الخارطة الحكومية التي تم إعدادها تنفيذا للتوجيهات الملكية السامية، تشكل عنوانا بارزا للشفافية وتقدم أجوبة واضحة لمحاربة كافة أشكال الفساد في ميدان الأعمال، خاصة عبر العمل على تطوير المجالات التالية:
أولا- تبسيط ورقمنة الإجراءات الإدارية، عبر تقليص 22 وثيقة مطلوبة من المستثمرين بنسبة 45% كمعدل متوسط وتقليص المدة الزمنية لمعالجة ملفات الطلبات وتبسيط مسار المستثمر، خاصة تلك المرتبطة برخص التعمير وتعبئة الوعاء العقاري ورخص الاستغلال، مع اعتماد الإطار القانوني والعملي لإحداث المقاولات بشكل إلكتروني.
ثانيا- تعزيز الشفافية الاقتصادية، من خلال مراجعة القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، فضلا عن تقليص آجال الأداء، وإيجاد حلول للإشكالات المرتبطة به باعتبارها عائقا أمام السير العادي للمقاولات الوطنية.
ثالثا: تحسين الولوج إلى العقار والمناطق الصناعية، من خلال اعتماد القانون المتعلق بالمناطق الصناعية الذي تروم مقتضياته تفعيل السياسة الصناعية التي تنهجها المملكة، عبر تطوير البنية التحتية الصناعية، بتوفير عقار صناعي إضافي يقدر ب 3.700 هكتار، ومواكبة الاستثمار الصناعي، إضافة إلى معالجة الإشكالات المرتبطة بتدبير المناطق الصناعية، حيث تم تعزيز عملية الولوج إلى العقار الصناعي عبر إطلاق البوابة الإلكترونية الخاصة بذلك zonesindustrielles.ma لمكافحة ظاهرة المضاربة العقارية والرفع من درجة شفافية المعلومة العقارية بشكل ينسجم مع احتياجات المستثمرين والرهانات الترابية.
رابعا- تطوير أدوات جديدة للحصول على التمويل، عبر إخراج القانون المتعلق بالتمويل التعاوني وقانون مكاتب المعلومات الائتمانية، بهدف تمويل مشاريع الشباب والمبادرات المبتكرة، عبر استخدام المنصات الإلكترونية للربط المباشر والشفاف بين حاملي المشاريع والمساهمين.
خامسا- تحسين الولوج إلى الطلبيات العمومية وجعلها رافعة للتنمية الاقتصادية وتعزيز الابتكار وثقافة ريادة الأعمال، عبر إقرار إصلاحات تهم بالأساس اعتماد نظام موحد للصفقات العمومية، مع توفير رؤية أكثر وضوحا للفاعلين الاقتصاديين وتعزيز آلية الأفضلية الوطنية فضلا عن تعزيز رقمنة مساطر الولوج وتتبع تنفيذ الصفقات العمومية عبر البوابة الإلكترونية marchespublics.ma.
وبلغة الأرقام والمنجزات، تعرف وتيرة إنجاز مختلف محاور هذه الخارطة الجديدة تقدما ملموسا، حيث قامت اللجنة الوطنية لمناخ الأعمال بإطلاق 83% من المبادرات والمشاريع المتضمنة في خارطة الطريق منذ 2023، مع الإشارة إلى أن نسبة الإنجاز بلغت 41% من مجموع المشاريع المبرمجة.
حضرات السيدات والسادة،
إن المستوى المتقدم الذي حققته هذه التجربة الحكومية فيما يتعلق بتحسين المؤشرات المالية والاقتصادية، ليس غاية في حد ذاته، بقدر ما نعتبره بوابة رئيسية نحو تكريس مظاهر الإدماج الاجتماعي وتكافؤ الفرص لكل المغاربة.
لذلك حرصنا منذ بداية الولاية، على وضع برامج مبتكرة موجهة نحو إنعاش التشغيل، وتتبعنا عن قرب التطورات الحاصلة في ميادين سوق الشغل.
حيث جعلت الحكومة الولوج إلى مناصب الشغل الجيدة، الهدف الأسمى لكل سياساتها وبرامجها القطاعية، بل والمعيار الذي تقاس به مجمل التدخلات العمومية.
ولعل تخصيص 14 مليار درهم في قانون مالية 2025 لتفعيل خارطة الطريق الجديدة للتشغيل، دليل على الأولوية القصوى.
وتستهدف الخارطة الجديدة ثلاث دعامات استراتيجية مهمة، ترتبط أساسا بتشجيع الاستثمارات ذات القيمة المضافة العالية، وتحسين فعالية برامج التشغيل الحالية، مع الحفاظ على فرص الشغل بالعالم القروي ودعم القطاع الفلاحي.
وتفعيلا لذلك، تراهن الحكومة على إطلاق حزمة من الإجراءات النوعية للحد من البطالة ورفع نسبة النشاط المهني في صفوف الشباب والنساء، خاصة تلك المتعلقة بتوسيع نطاق برامج إنعاش التشغيل لغير حاملي الشهادات لتشمل أزيد من 110.000 مستفيد، مع تقوية منظومة التكوين بالتدرج المهني لرفع عدد المتدربين إلى 170.000 مستفيد جديد.
في هذا الصدد، ينبغي التأكيد على أن الحكومة تتعاطى بشكل جدي مع الأرقام الرسمية لمعدلات البطالة، والتي انخفضت بالمناسبة خلال الفصل الأخير من سنة 2024 إلى أقل من 13%، بحوالي 0,8 نقطة مقارنة بالفصل السابق و 0,5 نقطة مقارنة بالفصل الاخير من سنة 2023، وهو المعدل الادنى منذ ستة فصول.
غير أن الأرقام المسجلة تحتاج قراءة موضوعية وأن توضع في حجمها الطبيعي.
حيث تجدر الإشارة مناصب الشغل الفلاحية المفقودة بفعل الجفاف، تبقى في مجملها مناصب غير منتظمة وغير مؤدى عنها، وترتبط بالمساعدات العائلية داخل المجال القروي، وبالتالي فهي ليست مناصب قارة.
في حين، لا يجب أن يخفي معدل البطالة، المجهودات الحكومية المبذولة لتحسين وضعية التشغيل وضمان جودة مناصب الشغل الجديدة. فمناصب الشغل المؤدى عنها عرفت تطورا مهما، فضلا عن ارتفاع عدد الأجراء المصرح بهم.
إضافة إلى مؤشرات نوعية لا تقل أهمية، لاسيما تلك المتعلقة برفع نسب الشغل المؤهلة عبر الإدماج التدريجي لأصحاب الديبلومات لتصل إلى 50% سنة 2023، مع رفع مناصب الشغل المنتظمة والمدفوعة الأجر بنسبة 5% بين 2018 و2023 إضافة إلى الزيادة التدريجية في حصة عقود الشغل الدائمة CDI والمحددة المدة CDD بحصة 11% خلال الفترة 2017-2023.
هذا التطور القوي للتشغيل الجيد ببلادنا، يجعلنا مطمئنين على الدينامية الإيجابية التي تشهدها قطاعات الصناعة والخدمات والأشغال العمومية، وهو ما يعكس ارتفاع الشغل المؤهل بشكل متزايد.
حضرات السيدات والسادة،
لقد أبان النموذج الاقتصادي المغربي، عن مناعة استثنائية في مواجهة مختلف التحديات التي عرفها العالم، مستفيدا بشكل مباشر من التطور الذي حققته مختلف مؤشرات الحكامة المالية والاقتصادية.
وهي حصيلة اقتصادية جد إيجابية، ستعطي للآفاق المستقبلية الواعدة ببلادنا مزيدا من الطموح والواقعية، مع تدعيم قدرة الاقتصاد الوطني في التحكم في مصير القطاعات الكبرى.
وأود أن أثير انتباهكم، إلى أن إجماع المنظمات والتقارير الدولية على حيوية ومتانة الاقتصاد المغربي في السنوات الأخيرة، يجب أن يشكل لجميع المغاربة مصدر ارتياح بالغ في المستقبل.
فعلى الرغم من تباطؤ الاقتصاد العالمي وتوالي التحديات الطبيعية والمناخية، فإن قدرة المملكة المغربية في التغلب على الأزمات الطارئة وتدبير مخاطرها المركبة، أصبح أمرا واقعيا ومنهجية حقيقية، ومحط إشادة من لدن البنك الدولي في تقاريره، خاصة إبان أزمة الإمدادات والتضخم العالمية سنتي 2022 و2023.
ولعل أبرز ملامح هذا الصمود، تصنيف المغرب في المرتبة 69 عالميا من قبل مؤشر الصمود العالمي لسنة 2024 الصادر عن وكالة FM Global، متقدما بذلك بــ 16 مركزا منذ 2021 بعدما كان يحتل المرتبة 85.
فضلا عن مؤشر صمود التجارة العالمي لسنة 2023 الصادر عن وكالة وايتشيلد Whiteshield، الذي منح المغرب المرتبة 48 عالميا بفضل قدرته على تهيئة بيئة تجارية مواتية، وزيادة التنافسية والاندماج الناجح في الاقتصاد العالمي.
في المقابل تتعدد العوامل الإيجابية لمناخ الاستثمار، إذ أن انتقال النظرة المستقبلية للمغرب من “مستقرة” إلى “إيجابية” حسب وكالة ستاندر اند بورز، إضافة إلى التصنيف الإيجابي لكل من وكالة فيتش وموديز، يعد تأكيدا هاما على دينامية الاقتصاد الوطني ومرونته.
كما سجل المغرب أداء متميزا من خلال تقرير البنك الدولي “Business Ready” حول جاهزية الأعمال الصادر في أكتوبر الماضي، محققا بذلك62,41 نقطة، بفارق 14,3 نقطة فقط عن أفضل أداء (76,70 نقطة).
وهي نتيجة إيجابية تعزى إلى الأداء الجيد في عدة مجالات، تتعلق بإحداث المقاولات وجودة خدمات المرافق العمومية والتجارة الدولية والحصول على رخص التعمير، إضافة إلى حكامة الضرائب والخدمات المالية والمنافسة السليمة والشفافة.
ينضاف إلى ذلك، الالتزام السياسي القوي للمغرب في الامتثال للمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والتي أخرجت المغرب من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (GAFI) في فبراير 2023. وتواصل الحكومة تعزيز هذه المنظومة من خلال الرفع من اليقظة التشريعية والتنظيمية وتوسيع نطاق المراقبة وضمان الأمن المالي.
وهكذا، فإن صورة المغرب أصبحت محل تقدير دولي كبير، وهو ما يعزز من جاذبية المملكة كوجهة استثمارية موثوقة، بالنظر لموقعها الجغرافي الاستراتيجي وإمكاناتها اللوجستية الهائلة، وما تتمتع به من مظاهر الأمن والاستقرار، بفضل جلالة الملك، نصره الله.
وهو ما يتيح توطين الاستثمارات الأجنبية الرائدة عالميا، كالاستثمار في الطاقات المتجددة وصناعة السيارات، ويساعد على بلورة معالم اقتصاد مستدام في المنطقة.
السيد الرئيس المحترم،
السيدات والسادة المستشارون المحترمون،
إن الحكامة المؤسساتية والخبرات الاقتصادية التي راكمتها بلادنا، يجب علينا تطويرها وترسيخها في أفق التغلب على تحديات الإصلاح مستقبلا.
وهو ما يتطلب الرقي بالحوار المتبادل بيننا، لتعزيز الثقة وتكريس مؤسساتنا التمثيلية كفضاء للاقتراح البناء والمساهمة الإيجابية، وألا نترك الاعتبارات السياسية الضيقة تهيمن على نموذجنا الديمقراطي.
فالانسياق وراء حملات التشويش الممنهج وتبخيس الجهود الوطنية، لن يكون أبدا سلوكا سياسيا مسؤولا، في وقت نحتاج فيه إلى صناعة الحلول عوض الاستثمار في لغة التشاؤم وممارسة التغليط.
ذلك أن مقاربتنا لتفعيل الاختيار الديمقراطي يجب أن تترجم حرصنا الجماعي أغلبية ومعارضة، على الرفع من حكامة تدبير السياسات في علاقتها المباشرة مع قضايا وانشغالات المجتمع المغربي، على نحو يجعلنا نستشرف “مغرب المستقبل” بكثير من الحكمة والجدية.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.