فليم حياة الماعز قصة واقعية خلقت ضجة الإعلامية عن دول الخليج بأخص بالمملكة العربية السعودية
صوت الصحافة
صوت الصحافة
بعد فترة وجيزة من مظاهرات الجالية البنغالية، في أكثر من بلد خليجي، يأتي عرض الفيلم الهندي (حياة الماعز) ليكون محلًا لجدل واسع بين المشاهدين العرب، بصورة تفوق ما جرى في الهند نفسها. فالصحف الهندية لم تحفل بتغطيات تعرضت لجوانب سياسية أو استعدائية، وبعض التغطيات كانت من باب النقد الفني، أو الحديث عن موضوع الفيلم، بوصفه مسألة حقوقية من غير أبعاد سياسية.
في المقابل توزعت مواقف المشاهدين العرب بين الرفض التام والإنكار الكامل، والحديث عن مؤامرة هندية تستهدف السعودية، وبين من يتخذون موقفًا متطرفًا ضد السعودية والدول الخليجية، بشكل عام، ويوظفون الفيلم لتصفية حسابات ليست ذات علاقة بالموضوع.
أتى الفيلم في توقيت حرج بخصوص ملفات العمالة الآسيوية في الخليج، ولم تتمكن السعودية من بناء استراتيجية لتوظيف الفيلم لمصلحتها، خاصة أن نظام الكفالة، الذي بنيت جوانب كثيرة من أحداث الفيلم على أساسه، تعرض لمراجعة شاملة في السعودية وغيرها من دول الخليج منذ سنوات، كما إن الفيلم يتعرض لجانب من المجتمع السعودي تحاول الدولة تجاوزه من خلال هندسة مقاربة حداثية، وليس عليها أن تتحمل ميراثًا يعود لأكثر من ثلاثين عامًا.
جاء عرض الفيلم الهندي «حياة الماعز» ليكون محلًا لجدل واسع بين المشاهدين العرب، بصورة فاقت ما جرى في الهند نفسها
قبل المضي قدمًا، فنظام الكفالة الرجعي كان يشتمل على عيوب جوهرية، وأدى إلى ظهور طبقة من المستفيدين من إدارته وتوظيفه في مختلف الدول الخليجية، واعتبره البعض منحةً من الدولة للمواطنين يستغلونها من أجل زيادة دخلهم، أو الحصول على عمالة رخيصة، ومن غير حقوق تقريبًا، كما إن الصورة الأوسع لأوضاع العمالة في الخليج أدت إلى تكشف إشكاليات أعمق من ذلك، لأن الممارسة العملية تقوم على تخصيص الدولة الخليجية لأموال معينة لتمويل مشروعات البنية التحتية، ويتم دخول المتعهدين، ومن ثم متعهدي الباطن، ويعمل كل طرف على تخفيض التكلفة لتعظيم أرباحه. فبينما تفترض الدولة أن العامل سيكلف مبلغًا معينًا، فإن المتعهد الرئيسي يقوم باقتطاع جزء من التكلفة ليزيد من ربحه، وكذلك المتعهد من الباطن، ليصل إلى العامل بضعة مئات من الدراهم أو الريالات في النهاية، مع تخفيضات أخرى في شروط السكن والتنقلات. ويبقى أمام المسؤول الخليجي أن يتساءل مع الأزمات لماذا تحدث المشكلات، مع أن الحقائق التي أمامه تقول غير ذلك؟ وهو السؤال الذي حاولت السعودية الإجابة عنه في السنوات الأخيرة.
الفيلم في بنيته الأساسية لم يصل إلى معالجة موضوع الكفالات نهائيًا، فلو افترضنا أن الكفيل الذي تغيب لسبب مجهول في الفيلم، كان موجودا أثناء وصول طائرة العاملين الهنديين، فالفيلم كله لم يكن لينبني على أساس، وبغض النظر عن أنه كان من الممكن للكفيل أن يضع العاملين في ظروف سيئة، إلا أنها لم تكن لتصل أبدًا إلى المستوى الإجرامي، الذي اقترفه رجل يمتلك قطعانًا من الجمال والأغنام والماعز، رجل يعيش تقريبًا خارج القانون، ولم يكن محتملًا بأي صورة أن تتقاطع سلطة القانون من دوريات ومهام تفتيش نظامية مع أعماله بعيدًا عن أقرب طريق لعبور السيارات بعشرات الكيلومترات.
يقصد الفيلم الجمهور الهندي، ويضع السعودية الشحيحة في المياه إلى درجة تجعله مخصصًا لرشفات متأنية مقابل الهند بمياهها الفياضة، في مشهد متميز بصريًا، ولكنه ينضح بالرمزية السهلة، بالانتقال من الماء المنسكب من خزان في الصحراء إلى نهر كبير في الهند، ولكن ما الذي يحدث في الهند على الجانب الآخر، وراء الأشجار الكثيفة للغابات، وكيف يمكن تجاهل نظام طبقي خانق يضم تصنيفات تضع كثيرين في فئة دون الآدمية، وفي المقابل، يأتي تفاعل الجمهور العربي محملًا بالتفسيرات الزائدة التي لم يتقصدها الفيلم بالضرورة.
وجد الجمهور العربي فرصةً جديدةً للمناكفات ووجبة شهية أمام الذباب الإلكتروني و»ألتراس» المواقف السياسية، التي تحول فضاء الإنترنت إلى ساحة خصبة ورخيصة التكلفة المادية والمعنوية لاستيعابها، متناسين أن بعض الدول الآسيوية قامت بمنع عاملات المنازل من التوجه إلى بلدان عربية معينة، ولم تكن بلدانًا خليجية، وذلك لوجود ثغرات في القوانين، أو شيوع معاملة خشنة من أصحاب المنازل، وهو ما قدم طرفًا منه الصحفي اللبناني حازم صاغية في كتابه «أنا كوماري من سريلانكا»، وأن معظمهم لا يعتبر ذلك مشكلة تستحق اهتمامه أو متابعته.
بالعودة إلى مسألة التوقيت غير البعيد من مظاهرات الجالية البنغالية في أكثر من بلد خليجي، لم يلتقط أحد أسئلة ذات طابع خليجي خاص، وهي التركيبة السكانية، التي تشهد اختلالات عميقة، وخاصة في دولتي الإمارات وقطر، ومنها نسبة المواطنين إلى السكان، ونسبة الذكور إلى الإناث، وهذه اعتبارات أدت مع عوامل ثقافية أخرى إلى ظهور نظام الكفيل، خاصة أن دول الخليج تتجنب فكرة الاحتكاكات، وتعمل على توظيف الأموال في جانب منها لإبقاء التوتر المحتمل في الحدود الدنيا أو الصفرية.
وسط حالة من الإفراط في الاستيراد تبقى فكرة استيراد المشكلات من الدول الأخرى مسألة مرفوضة خليجيًا، لعدم وجود العمق السكاني، الذي يمكنه أن يستوعبها، والارتباك الذي أحدثه فيلم يدور حول جريمة فردية استغلت ثغرات قانونية وموقعًا بعيدًا عن الحدود الدنيا من التمدن يعتبر جزءًا من سياسة الاحتكاك الصفري، ويبدو أن دول الخليج بشكل عام غير مستعدة أو غير مؤهلة في فكرها وذهنيتها السياسية للتعامل معه، وخاصةً في جوانبه المتعلقة بالبنى المجتمعية.