
صوت الصحافة
في صباحٍ باردٍ من صباحات نهاية الأسبوع، كانت الحافلة تقف بمحاذاة أحد أرصفة الرباط، تستعد للانطلاق في رحلة لم تكن مجرّد نزهة عابرة، بل وعدٌ بلقاء مختلف، تلتقي فيه الأرواح المتعبة من روتين المكاتب، وتتنفس فيه القلوب شيئًا من نقاء الأطلس. كانت الوجوه تلمع بالتوقع، والعيون مشغولة بخيالات الطريق الطويل الذي ينتظرهم.
هي مبادرة جديدة من المكتب الإقليمي لودادية موظفي قطاع العدل بالعاصمة، اختار لها المنظمون عنوانًا بسيطًا، لكنه كان كفيلًا بأن يوقظ الحنين في نفوس المشاركين: “رحلة الأطلس”. انطلقت الرحلة صباح يوم السبت 3 من شهر ماي 2025، لتأخذ المشاركين في مسار عبر جمال الطبيعة وجمال الصداقات التي تنمو بعيدًا عن أروقة المحاكم. من عيون أم الربيع، حيث تنبثق الحياة من جوف الجبال، إلى إفران بأشجارها الوارفة وهدوئها الشاعري، وصولًا إلى فاس، حيث يتعانق التاريخ بالروح.
كانت الرحلة أكثر من مجرد ابتعاد عن العمل، فهي فرصة لتجديد الروابط بين الزملاء الذين عادة ما تجمعهم الظروف الرسمية، لكن هنا كانوا يلتقون بروح أخوية حقيقية. لم يكن الطقس وحده هو الذي جعل الأجواء ساحرة، بل أيضًا تلك اللحظات من الضحك المتبادل، والمشاركة في المسابقات الثقافية التي أدخلت بعض التحدي والمرح في قلوب الجميع، ليشعر الجميع بأنهم أكثر من مجرد موظفين في منظومة واحدة؛ بل كانوا أسرة واحدة.
امتدت الرحلة ليومين، لكنها تركت في النفوس أثرًا قد لا تمحوه الأيام. تميّز البرنامج بتنوعه وتكامله، فقد حرص المنظمون على خلق توازن دقيق بين الترفيه والمعرفة، بين الضحك والتأمل. كانت هناك لحظات من البهجة الجماعية في المسابقات الثقافية، تلتها جلسات تأمل صامتة وسط جمال الطبيعة، حيث بدا الأطلس كأنه يفتح ذراعيه لاحتضان كل روح أنهكها صخب الحياة. في تلك اللحظات، كان كل فرد يختبر لحظة صمت تليق به، حيث تختلط همسات الرياح بأنفاس جديدة، وتغمرنا مشاعر من الهدوء تتخلل أعماقنا.
وقد كنت من بين هؤلاء المحظوظين الذين عاشوا هذه التجربة عن قرب. رأيت كيف تذوب الفوارق بين الزملاء في لحظة صدق، وكيف تتحول الرحلات إلى محطات إنسانية حقيقية، تبني جسورًا من الودّ لا تُرى، لكنها تُحسّ. في تلك الأوقات، تذكرت أننا جميعًا بشر نحتاج إلى لحظات من الانفصال عن صخب الحياة المهنية لنحتفظ بتوازننا الداخلي. كانت الابتسامات تتبادل بعفوية، والقصص تُروى على جنبات الطرق، فيختفي الحاجز الرسمي، ويظهر وجه الإنسان خلف كل لقب وظيفي.
في قلب هذه الرحلة، لم تقتصر اللحظات الجميلة على المناظر الطبيعية فحسب، بل كانت فرصة لتبادل الأفكار والأحلام، ولإعادة اكتشاف الإنسان وراء الدور الذي يؤديه في العمل. كانت هي المكان المثالي للحديث عن طموحات الموظفين، وما يمكن أن تحقق الودادية في المستقبل، وكيف يمكن للزمالة أن تصبح قوة حقيقية تدفع الجميع نحو الأفضل.
وفي نهاية الرحلة، اجتمعنا في جلسة وداع، لكنها لم تكن وداعًا حقيقيًا، بل وعدًا بلقاءات قادمة. عبّر المكتب الإقليمي عن امتنانه العميق لكل من ساهم في إنجاح هذه التجربة، وأكد التزامه المتواصل بإطلاق مبادرات اجتماعية مماثلة، تُعيد للموظف بعضًا من إنسانيته وسط زحمة المسؤوليات. كان الجميع يهمس بكلمات الشكر والعرفان، وكنت أنا من بينهم، فكل لحظة كانت تحمل في طياتها أملًا جديدًا وتعزيزًا للثقة بين أفراد أسرة قطاع العدل.
كانت “رحلة الأطلس” أكثر من مجرد رحلة. كانت دعوة للحياة، للتماسك، وللانتماء… وكنتُ شاهدًا عليها، بقلب ممتن وفخر الانتماء، محملاً بذكريات ستظل تلوح في الأفق، تذكّرنا دائمًا بأن الحياة ليست فقط في العمل، بل في اللحظات التي نعيشها معًا، في الرحلات التي تجعلنا نتذكر قيمة الرفقة.
ذ. أسامة كلال: عضو بالجامعة الوطنية لقطاع العدل.