أعمدة الرأي

حين يصبح الأمن سلعة من يشتري استقرار الساحل بين الجغرافيا المختطفة والولاءات المتبدلة، هل فقدت إفريقيا حقها في السيادة

بقلم عبد الإله الوافي

 

 

 

بقلم: عبد الإله الوافي

 

في صيف مشتعل على تخوم الصحراء، سقطت طائرة مسيّرة مالية بنيران الدفاع الجوي الجزائري. حادث عسكري في الظاهر، لكنه في عمقه صرخة سياسية مدوية، تكشف عمق الانقسام داخل جسد الساحل الإفريقي.

لم يكن ردّ مالي دبلوماسيًا. بل كان اتهامًا صريحًا: الجزائر راعية الإرهاب، وحاضنة الفوضى، ومحرك خفي للدمار المزمن الذي ينهش جسد شمال مالي.

 

هل هي مجرد اتهامات عابرة؟ أم أن للرمال ذاكرة، وأن الجنوب الجزائري يخفي ما لم يُقَل بعد؟

 

 

 

منذ أكثر من عقدين، تلوّنت خريطة الساحل بلون الدم، وتحوّل الشمال المالي إلى مسرح دائم للفرار والانفجار. جماعات تتوالد، وقيادات تتحرك كما البيادق على رقعة شطرنج لا نعرف من يُديرها حقًا. وفي قلب هذه الفوضى، تبرز أسماء مألوفة: مختار بلمختار، عبد المالك دروكدال، عبد الرزاق البارا، وأبو الوليد الصحراوي… جميعهم يحملون القواسم نفسها: الانتماء الجزائري، والارتباط الاستخباراتي، والتورط في حروب غير معلنة.

 

لم تعد هذه المعطيات محصورة في مذكرات الأجهزة أو تقارير الصحافة الاستقصائية، بل تسربت إلى ملفات “ويكيليكس”، وطرقت أبواب الأمم المتحدة، حتى وجدت طريقها مؤخرًا إلى مذكرة رسمية قدمتها مالي لمجلس الأمن، تطالب فيها بالتحقيق في “الدور التخريبي للجزائر في زعزعة استقرار الساحل”.

 

**

 

غير أن ما هو أخطر من الجغرافيا، هو العقيدة السياسية. فالجزائر، كما يراها مراقبون، لم تتحرر بعد من سرديات الحرب الباردة. تستعيد نفس الأسلوب السوفياتي: حروب بالوكالة، دعم للانفصاليين، وخلق تنظيمات تدين لها بالولاء الكامل مقابل الحماية والرعاية. وإذا أضفنا إلى هذا النمط مقاربة مشابهة للنموذج الإيراني في استخدام الميليشيات كأذرع عسكرية وسياسية، فإننا نكون أمام نموذج مزدوج يستخدم الدين، والهُوية، والجغرافيا لتوسيع النفوذ وتثبيت الزعامة في محيط هشّ.

 

لكن، من يدفع الثمن؟ ليس باريس، ولا واشنطن، ولا موسكو. بل الطفل الذي يموت في تمبكتو، والأم التي تُشرّد في غاو، والجندي الذي يتيه بين صحراء النيجر وحدود بوركينا فاسو.

الضحايا كُثُر، والخطابات كثيرة، لكن الحقيقة واحدة: هناك من يتاجر في الأمن، ويبيع الفوضى على شكل استراتيجيات دفاع.

 

**

 

المنطقة اليوم بحاجة إلى مشروع سياسي وأمني جماعي، يخرجها من وصاية المتدخلين، ويُعيد تعريف مفهوم السيادة بعيدًا عن البنادق المؤجرة.

فلا استقلال في ظل مرتزقة، ولا أمن في ظل تحالفات غامضة، ولا تنمية في ظل من يدعم الإرهاب ليكون شريكًا في محاربته.

 

 

لقد آن الأوان أن تُفتَح الملفات المسكوت عنها. فالأمن لم يعد قضية داخلية، بل سلعة معولمة تُباع وتُشترى. والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح اليوم: من يشتري استقرار الساحل؟ ومن يُصنّع له فوضاه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى