بقلم عبد الهادي مزراري
قد يتساءل القارئ للوهلة الأولى، لماذا هذا العنوان؟ وبهذه الصيغة؟ ولماذا ليس بتعبير آخر؟ وبتوصيف يتعدى الحرب إلى العدوان، والقتال إلى البطش؟ وإلى ما هناك من مصطلحات وتعابير تضع ما يجري في غزة في إطار ما نشاهده من تدمير للمستشفيات، وقتل للأطفال، وإغارة على الجرحى، ونسف للبنيات التحتية، بلا أدنى احترام للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
تلقيت أسئلة من شريحة واسعة من المتتبعين لما يجري في فلسطين وتحديدا في غزة، ومعظم التساؤلات انصبت حول موعد وقف الحرب، ومستقبل غزة، وإمكانية بقاء حركة حماس، وغير ذلك من الأسئلة المرتبطة بأزمة الشرق الأوسط ودور الدول العربية المجاورة، وتحمل مسؤوليتها في ما يجري.
جوابا على التساؤلات المطروحة، وبكل موضوعية ولتحري الحقيقة، يجب أن ننظر إلى هذه “الحرب” من زاوية الطرف الآخر أي إسرائيل. ولذلك تعمدت افتتاح هذا المقال بالعنوان المشار إليه أعلاه “حرب إسرائيل المصيرية”، وبعد معرفة مصير إسرائيل سيكون من السهل معرفة مصير فلسطين، وذلك لأن الذين أسسوا دولة إسرائيل جعلوا أحد أركانها الأساسية محاربة الفلسطينيين وقتلهم وإجلاءهم وتشريدهم، وعدم السماح لهم بالعودة، ولا بتأسيس دولة لهم.
إذن بمنطق الرياضيات لن يتحدد مصير للفلسطينيين ما لم نحسم أولا في مصير إسرائيل.
راجت فكرة الأرض مقابل السلام، وتداولت المفاوضات مقترح حل الدولتين، ونشطت الديبلوماسية الدولية من أجل تحقيق هذا المقترح، منذ مؤتمر مدريد 1991، وانتهى الامر باتفاقية أوسلو عام 1993.
لكن ما هو ثمن اتفاقات السلام في الشرق الأوسط سواء مع منظمة التحرير الفلسطيتية، التي انتجت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية؟ أو مع الأردن الذي تسلم بموجبها قطاع واد عربة؟
كان ثمن العملية السلمية اغتيال إسحاق رابين، وإقامة مئات المستوطنات على مدى ثلاثة عقود، ومحاصرة الضفة الغربية، واغتيال ياسر عرفات، ومحاصرة غزة وتصفية عشرات قيادات حركة حماس وألويتها العسكرية، واعتقال آلاف الفلسطينيين، وتنفيذ عشرات العمليات في القطاع والضفة وفي لبنان أيضا.
إلى ماذا ترمي كل هذه الأحداث؟
هناك في الجانب الإسرائيلي جناح لا يؤمن بالسلام، ولا يريد أن يسلك الطريق الذي قد يؤدي إلى وجود دولة فلسطينية بأي ثمن كان، وذلك لأن هذا الجناح متمسك بأن قيام إسرائيل واستمرارها هو فكرة دينية مقدسة من زمن نبي الله موسى عليه السلام، ومحورها “الأرض بدون سكانها”، وهذا متطابق تماما مع جاء في القرآن الكريم “قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا “.
في هذا الزمن، وتحديدا مع إسرائيليي اليوم، دخلوا الأرض ويريدون إخراج أهلها.
خلال الدورة الأخيرة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في شتنبر 2023، عرض بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي خارطة للشرق الاوسط الجديد لا تتضمن أي إشارة لدولة فلسطين، فيما تشير إلى حدود إسرائيل حتى من دون قطاع غزة أو الضفة الغربية.
بدا نتنياهو منتشيا بعرضه، وكان يحس بأن الطريق ممهدا لتنفيذ مخطط إجلاء ما تبقى من الفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة، وكان على يقين بأن القضاء على حركة حماس وتهجير فلسطيني غزة، إذا لم يتم بواسطة صفقة القرن، فسيتم بضربة عسكرية قاضية.
لعب عامل الثقة في القوة العسكرية دورا كبيرا في جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي يتزعم الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ دولة إسرائيل على مدى سبعة عقود، فضلا عن التأييد الديبلوماسي الذي قرأه بسهولة في تطبيع عدد من الدول العربية. فبات على يقين بأن تطهير قطاع غزة من سكانها أشبه بضربة منشار في قطعة من الزبدة.
تعبأت إسرائيل وتعبأ معها عموم حكام دول الغرب عقب الهجوم الذي تعرضت له في السابع من أكتوبر 2023، إثر تنفيذ فلسطينيين عملية “طوفان الأقصى”، وقدمت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا دعما سياسيا وعسكريا غير مشروط من أجل تمكين إسرائيل من تنفيذ مخططها الذي هو من حيث الظاهر استعادة الاسرى والقضاء على حماس، ومن حيث الباطن تهجير سكان غزة وتوطينهم في سيناء والاستيلاء مجددا على القطاع.
لكن هنا حدثت المفاجأة، رغم تدخل الدول الغربية إلى جانب إسرائيل، ورغم تقيد الدول العربية في الجوار وإيران بعدم توسبع رقعة الحرب، ورغم البطاقة البيضاء التي حصلت عليها إسرائيل لاستعمال القوة المفرطة بأقصى الحدود التي تملكها لتدمير المقاومة الفلسطينية في غزة، ورغم الفارق الذي لا يسمح للمقارنة بين قوة إسرائيل العسكرية وبين ما يملكه المقاومون الفلسطينيون، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق اي من الأهداف سواء المعلنة أو الخفية رغم مرور ازيد من 75 يوما على الحرب.
أكثر من ذلك، خلقت المقاومة الفلسطينية المحاصرة والمستضعفة المفاجأة وأوجعت إسرائيل إلى حد خلق انشقاق في الداخل الإسرائيلي، حتى خرجت فرق دينية إسرائيلية تؤذن بقرب زوال دولة إسرائيل.
لم يحدث ذلك على مر سبعة عقود، وطوال الحروب التي خاضتها إسرائيل في 1948، و1956، و1967، و1973، و1991 عندما كانت الصواريخ العراقية تدكها في العمق، لم ينشق الداخل الإسرائيلي، وكانت الجبهة الداخلية موحدة، والجبهات اليهودية في الخارج داعمة ومؤيدة.
على خلاف ذلك، تتلقى إسرائيل اليوم ضربات المقاومة الفلسطينية من غزة، برا وجوا، ولا مؤشر عن قرب استسلام حماس، ولا فرار الفسطينيبن من القطاع نحو سيناء. بل بالعكس هناك هجرة لآلاف اليهود من المستوطنات ومن إسرائيل، وهناك مزيد من الأسرى والقتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي، وهناك أكبر كساد اقتصادي تعرفه الدولة العبرية في تاريخها.
لا تملك إسرائبل خطة واضحة للخروج من خطتها العسكرية الفاشلة في غزة، وترد على الهزائم العسكرية بقتل مزبد من المدنيين، وهذا.في حد ذاته سبب وجيه لحصد فشل ديبلوماسي غير مسبوق على الصعيد العالمي.
تتوالى المظاهرات المنددة بإسرائيل والداعمة لفلسطين عبر مختلف مدن وعواصم العالم، وإن كان ذلك مجرد نباح بدون صدى، كما تسميه إسرائيل، إلا انه في هذه المرة يضم أصوات يهود معارضين للحرب، أي يهود معارضين لحكومة بنيامين نتنياهو، معارضين كذلك للرئيس الامريكي جو بايدن الذي لا يوافق على وقف الحرب رغم معارضة قسم كبير من موظفي البيت الابيض ووزرارة الخارجية.
قد لا يفسر موقف اليهود المعارضين للحرب بأنه دعم للفلسطينيبن أو رغبة في تحقيق السلام، ولكن إن لم يكن كذلك فالهدف الحقيقي هو الخوف على إسرائيل، على قول أحدهم “إن الخطر على الدولة العبرية ليس حركة حماس ولكن حكومة الحرب بقيادة نتنياهو”.
لا يوجد تفسير لصمود المقاومة الفلسطينية إلا في انتكاسة الجيش الإسرائيلي، ولا يوجد ما يفسر انتكاسة الجيش الإسرائيلي إلا بقاء المقاومة الفلسطينية واستمرارها في العبث بأوراقه، حتى جعلته في ساحة القتال يرتبك ويقتل جنوده وأسراه بيده.
شيء طبيعي ألا تتقبل إسرائيل الهزيمة، لأن ذلك سيكون بمثابة إعلان عن بداية النهاية، حتى وصل الأمر بأحدهم إلى الدعوة بإلقاء قنبلة نووية على غزة.
يبدو أن الفكر الإسرائيلي توقف عن إبداع الحلول والمخرجات، ومع مرور كل يوم يرفع قدم وتنغرس قدم أخرى في الوحل، فهو لم يفشل في إلحاق الهزيمة بالمقاومة الفلسطينية في غزة فحسب، بل فشل في إقناع مئات الملايين من المتظاهرين وتحديدا في الغرب الذي يعتبر قاعدته الخلفية بأنه يحارب الإرهاب، لقد باتت إسرائيل متهمة عالميا بقتل الأطفال وتدمير المستشفيات والمدارس.
حتى لو ربحت إسرائيل جزئيا الحرب في غزة وهذا أمر مستبعد، فإنها لن تعود لتبؤ مقعدها في الغرب بترويج اساطيرها بصفتها ضحية في التاريخ، وواحة للديموقراطية في الجفرافيا لقد تغيرت النظرة إلى الأبد ومصيرها على المحك.