بكل بساطة دولة تسير بخطى ثابثة نحو اللادولة
خالد المهداوي
بعد أن أبدعت كثيرا في سياستها الخارجية الاقتصادية المدعومة من طرف مؤسسات الدولة، و بعد سنوات طوال من الخبرة الصناعية المكتسبة عبر تعاقدات التصنيع المفوض، تنكب الصين حاليا على تجويد مؤشراتها الاقتصادية الداخلية، فالصين ما بعد كورونا لن تكون كما كانت عليه من قبل، مليار و خمس مائة ألف نسمة في وعاء جغرافي مترامي الأطراف ويزخر بالمؤهلات والثروات الطبيعية، عناصر كفيلة بصناعة قوة إقتصادية وسوق إستهلاكية في نفس الوقت، عناصر اجتمعت في الصين و تفرقت فيما سواها، لتؤسس بذلك الصين نموذج إقتصادي جديد شبه مستقل عن العالم، بتنافسيته العالية وسوقه الاستهلاكية الواسعة، هذه الأخيرة_السوق الاستهلاكية الواسعة_ تراهن عليها الصين حاليا كرافعة أساسية لتقوية إقتصادها الداخلي، وذلك عبر الرفع من القدرة الشرائية والاستهلاكية للمواطن الصيني بما يسمح بإستدامة نجاعة العجلة الاقتصادية الصينية بمعزل عن الاقتصاد العالمي ودون السقوط في أزمة ارتفاع كلفة الإنتاج الداخلي، معادلة صعبة تشتغل عليها الصين و توظف من أجل هذا الهدف كل الإمكانيات المعرفية والفكرية والسياسية والعلمية والتكنولوجية بهدف صيانة السيادة الاقتصادية لدولة الصين، و بالتالي صمود الدولة أمام تحولات السوق العالمية والتحديات الألفية الجديدة. باختصار تام هذا ما تسهر على إنجازه الصين من أجل ضمان دولة السيادة واقتصاد الريادة، في إطار خطتها الإقتصادية السياسية الطموحة “طريق الحرير”
من جهة أخرى، نرى أن هناك من يعبث عبثا بدولة المغرب الحبيب، يعبث بالمواطن والتاريخ والذاكرة وبالمؤسسات والسيادة الاقتصادية على حد سواء، عبر سلسلة من القرارات الخبيثة والمعدة على السريع في فترة السماح الحكومي، قرارات أقل ما يقال عنها أنها تُضعف الدولة والمملكة داخليا ليسهل إختراقها من أي قوى خارجية من خلال إقحام المغرب في أزمات هيكلية داخلية تستدعي بعد ذلك تدخل القوى الناعمة لتأسيس عهد حماية جديد والمزيد من الارتهان السيادي و الإقتصادي، و تتجلى هذه الخطط الخفية في إجراءات عديدة، نسرد أهمها وأشدها فتكا بالدولة:
**١- إضعاف القدرة الشرائية للمواطن و إثقال كاهله بالضرائب:**
بلغة الأرقام، المواطن المغربي الذي يشتغل في القطاع المهيكل يؤدي أكثر من 40% كضريبة على الدخل، بالاضافة الى 20% كضريبة على القيمة المضافة التي يؤديها المواطن عند الاستهلاك سواء في القطاع المهيكل أو غير المهيكل. بمعنى أدق يؤدي المواطن المغربي أكثر من 60% من الضرائب حينما يقرر الالتحاق بالقطاع المهيكل، وأكثر من 20% إن قرر البقاء في الإقتصاد الذي أريد له أن يظل في الظلام. فجمال القمر لا يكتمل إلا بوجهه المظلم.
و هكذا فالدولة تعيش قطبية إقتصادية فريدة من نوعها، خطان إقتصاديان متوازيان لا يلتقيان إلا نادرا في محطات إستثناءية مسبقة التخطيط، محطات تساهم في ترحيل كتل مالية رهيبة من الاقتصاد المضيء نحو الاقتصاد المظلم ليستفيد من ظلاميتها بعضهم كمحطة عيد الأضحى مثلا، تماما كالشخصية التي تعاني من مرض السكيزوفرينيا أو ثنائية الشخصية، حيث تتغدى شخصية من النفايات النفسية للشخصية الاخرى ويتطور معها المرض و تزيد المعاناة، وهكذا تنتحر في هكذا مناخ كل مفاهيم التعاقد المنطقية وتختل الموازين وتتشابك المشتبهات.
و الضحية الأولى هي المواطن طبعا، بعد إثقال كاهله واضعاف قدرته، تتغير الممارسات الاستهلاكية للمجتمع ويضعف طلبه التجاري ليتركز على الأساسيات والضروريات، وكخطوة إستباقية قررت حكومة الأزمات الزيادة في أسعار المواد الحيوية، حتى تضمن الحد الأدنى من الحركية المالية للنسيج الاقتصادي، و بالتالي تُطْبِقُ على المواطن في قمقم المسلمة الشهيرة “إعمل لتعيش وإلا ستموت جوعا”، وهذه نظرة إقتصادية محضة وقاتلة حين تُدار بها شؤون الدولة التي يُفترض أن تُدبر بعين الأب لأفراد أسرته لا بعين المدير العام لموظفيه في شركة عائلية.
كضحية ثانية، إقتصاد الدولة يضمحل و ينكمش إلى نقطة تجعله هشا و يصعب عليه إستدامة انتاجيته ومردوديته و تقل تنافسيته مما يُسَهِّلُ إختراقه من قوى إقتصادية خارجية أو قوى مالية إنتهازية وإرتهانية، وتعيش عندها الدولة سنوات الضياع، يضيع فيها كل ما تم إنجازه خلال عقود التموقع الاقتصادي المغربي إقليميا.
بعد سنوات الضياع الاقتصادي، وفي غياب الحكامة البعيدة المدى، قد تتصدع السيادة، وتضعف القيادة، وتنطلق القاعدة في اتجاهات عدة.
**٢- عفى الله عما سلف لكبريات الشركات وسحب قانون الاثراء الفاحش**:
التهرب الضريبي والسماح بالإثراء الفاحش ممارسات أضحت العنوان الأول لكل حوارات كواليس الفاعلين في النسيج الاقتصادي الوطني، وما يندى له الجبين و تشيب له الولدان وتَذْهَلُ له كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ لسماعه كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، هو أن هذا الحوار ظل حبيس الكواليس السياسوية، وكأن ظاهرتي _التهرب الضريبي و الإثراء الفاحش_ تم إلحاقهما بالعديد من قضايا الشذود المجتمعي التي تصنف كطابوهات الحوار الإجتماعي الوطني، وتم بذلك إلباس هاتين القضيتين رداء القضايا الغرائزية الشاذة التي تدخل في نطاق الحرية الشخصية التي لا تحتمل حوارا وطنيا صريحا بين كل مكونات الدولة المؤسساتية، والغير الحكومية والحقوقية و(((النقابية))) والاجتماعية، بهدف إنقاد الاقتصاد والتأسيس لإنطلاقة جديدة نحو أفق واسع يتجاوز إكراهات دول الجوار وتتسع معه رقعة التموقع الاقتصادي.
كما هو معلوم الضرائب هي المورد الأساسي لخزينة الدولة بعد موارد “الثرواث الطبيعية المعدنية والطاقية والحيوية”، و كما سبقت الإشارة إليه فإن المواطن المغربي الذي إختار القطاع المهيكل يؤدي أكثر من 60% كضريبة على دخله، أما الآخر الذي اكتفى بالقطاع الغير المهيكل فتلزمه ضريبة على القيمة المضافة 20% أو أكثر عن كل عملية إستهلاك، وفي غياب تفعيل آليات الإستخلاص الضريبي من القوى الفاعلة في النسيج الإقتصادي، هذه الأخيرة_القوى الاقتصادية_ هي التي تستفيد من وتستهلك شبكات البنيات التحتية والخدمات المواكبة، التي تنجزها الدولة من خزينتها العامة والتي تنعشها ضرائب المواطن، وتتهرب منها كبريات الشركات.
هكذا ممارسات فارغة من أبسط معاني الإنسانية، والحبلى بالنزوات الغرائزية التي تندرج في إطار تفعيل سياسة “إعادة تربية المواطن”، سَتَهْلِكُ لا محالة الفاعل والمفعول له والمفعول به والمفعول فيه، هي مسألة وقت ليس إلا.
**٣- مكيدة الفقاعة الاقتصادية:** هي خطة إقتصادية خبيثة قد ينهجها العملاء أو الجهلاء على حد سواء، والمراد بها استنزاف ميزانية الدولة بسياسة إقتراض مجحفة بهدف إنجاز حزمة مشاريع بنية تحتية وخدماتية غير مشروعة وهمية و قد تكون مزيفة لا تنبثق أبدا من واقع الخصاص التنموي الحقيقي، بل هي مجرد شهوات استثمارية أو إملاءات خارجية تنعش خط الاقتصاد المضيء على حساب خط الاقتصاد المظلم، و تحدث عندها ظاهرة الفقاعة التي تنفجر بعد فشل الدولة في سداد الديون وتنزلق في مأساة إرتهان السيادة.
**٤- رفع حظر التجوال والتنقل:** قرار هروب إلى الأمام وإلهاء عن ما يُحاك في الكواليس وفتح أوكار الأنشطة الليلية لتمتص بصخبها ومؤنساتها وأوساكها غضب النهار والمظاهرات الحاشدة التي إنطلقت مبكرا مع موسم الخريف العنيف من دورة مناخية سياسية تَعِدُ بالكثير من العواصف و الأمطار الرعدية والسيول الجارفة، قرار ظاهره حق يراد به باطل، و إن الباطل كان زهوقا.